أضحى لدينا موضوع محاماة المرأة عن بنات جنسها قضيّة للبعض يُوالي عليها ويُعادي عليها، لاسيّما من يُطالب بفتح مجال المحاماة للمرأة لتكون محامية عن بنات جنسها.
فتجده يعتبر ذلك نُصْرةً للمرأة، والحقّ أن للموضوع أبعادًا لابدّ من تجْليتها حتى يستبيْن الأمر، ليُقال هل في تعيين المرأة محامية مصْلحة؟
وقبل إيراد أ بعاد الموضوع لابدّ من التأكيْد على أن المصْلحة المنشودة هي ما اعتبرها الشرع والعقل، إذْ لا تعارض بينهما، كما لابدّ من التأكيد على أن العاقل ليس ضدّ أيّ عمل يكفل للمرأة كرامتها.
وقد بيّنت في تصريح سابق أنّ قرار مجلس الوزراء ذا الرقم (120)لعام 1425 القاضي بافتتاح أقسام نسائية في كل دائرة حكومية تُعنى بتقديم خدمة للنساء فيه بالإضافة إلى تشريف المرأة تفويت الفرصة على كل صفيق وجه أن يقلّ من أدبه.
البُعْد الأول: (ما العمل عند اجتماع المفاسد والمصالح؟).
إن أيّ أمر يشتمل على مصالح ومفاسد فإنه يُنظر فيه، فإن كانت المصالح والمفاسد فيه مستوية فإنه يُترك، وهذا ما يقتضيه العقلُ والشرعُ، ومن القواعد الشرعيّة أنّ درْءَ المفسدة مُقدّمٌ على جلب المصلحة، وليس من الحكمة أن يُصلح المرء أمرًا من جهة ويُفسده من أخرىز
وكذلك فإن الأمر يُترك لو كانت المفاسد فيه أرجح من المصالح من باب أولى، وأما إذا كانت المصالح فيه أرجح من المفاسد فإنه لا يُترك، ويُحرص فيه أيضًا على درء المفاسد التي فيه وتقليلها، ولا أعلم أحدًا خالف في هذه القاعدة من المذاهب الإسلامية كما تُبيّنه كتب أصول الفقه في كل مذهب.
وتأسيسًا على ما تقدّم لو قيل:فتح مجال المحاماة للمرأة لتكون محامية فيه مفاسد ومصالح فإنه لابدّ من تطبيق ما سبق عليه.
البُعد الثاني: (ما معنى مُحامية؟ وما الفرق بين المُحامية وغيرها كالوكيلة في الخصومة؟).
المُحامية تقوم مقام الأصيلة في الدعوى، لكن لو تمّ سنّ عملها كعمل المُحامي تمامًا، وهذا ما حدث في الدول المُجاورة لَرأينا ألا بدّ لها من مقرّ أي مكتب تأتي إليها فيه من أرادت توكيلها لتوكيلها ومراجعتها في دعواها، ولابدّ لها من التفرّغ للعمل.
فقد تضطرّ إلى السفر والتنقّل من أجل قضايا موكلاتها، وأيضًا قد تحضر بعض المؤتمرات واللقاءات وورش العمل مع زملاء وزميلات المهنة، كاتحاد المحامين العرب، إذا ما تمّ التعامل معها كمحامي.
أما غير المُحامية كالوكيلة في الخصومة فهي تقوم مقام الأصيلة في الدعوى، لكن ينتهي عملها في المرافعة إما بفسخ الوكالة أو انتهاؤها أو انقضاء الدعوى وصدور حكم فيها أو موت الموكّلة، ولا تضطر للتفرّغ لمحدوديّة القضايا.
فمما تقدّم لعلّه اتضح الفرق بين المُحامية وغيرها، أن المحامية علاوة على أنها تُعامل كمعاملة المحامي من حيث أخذها لحقوق المحامي وبذلها لواجباته لها مكتب ولابدّ أن تُسافر يمنة ويسرة – وقد لا يتهيأ لها محرم في كل مرّة – لتتابع قضايا موكلاتها (إن بقي الأمر على أن تترافع عن بنات جنسها فقط).
البُعد الثالث: (واقع المحاكم اليوم).
لا أعلم أنّ النظام يمنع من أن تتوكّل المرأة في الخصومة، كما لا أعلم أنّ أحدًا من المختصين يمتع من ذلك.
البُعد الرابع: (ما المصالح وما المفاسد في تعيين المرأة محامية؟).
من أهم المصالح في تعيين المرأة محامية عن بنات جنسها أن تجد المرأة بطريقة فيها يُسر من يترافع عنها إن لم تتمكّن من المرافعة بنفسها أو لم تُرِد ذلك، أما إذا لم تكن هناك محامية فقد يشقّ عليها البحث عمّن توكّله من بنات جنسها،لاسيّما إذا تخلّى عنها ذووها.
ومن المصالح أيضًا نشر الثقافة الحقوقية في أوساط النساء، وكذلك فتح مجال جديد لعمل المرأة، وغير ذلك، أما المفاسد من فتح مجال المحاماة للمرأة فمنها أن المحامية لابدّ لها من السفر يمنة ويسرة – وقد لا يتهيأ لها محرم في كل مرّة – لتتابع قضايا موكلاتها وتحضر ما تراه مهمًا لمهنتها من مؤتمرات ولقاءات وورش عمل كما سبق، كما إن من المفاسد إن لم يبق الأمر على أن تترافع عن بنات جنسها فحسب.
فقد يكون مكتبها مكانًا لاختلائها بالموكلين وغيرهم حتى ذوي الموكلات، فمآلات الأمور لابدّ من اعتبارها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتبرها ويرعاها في حكمه، ومن المثال عليه تركه لقتل بعض المنافقين لئلا يتشوه الدين ويقال إن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه ومن تبعه.
البُعد الخامس: (إذا تزاحمت المصالح والمفاسد فأيها يُرجّح؟)
وبعد ما تقدّم فلو نظرنا في المصالح من فتح مجال المحاماة للمرأة لوجدنا أنه يُمكن تحصيلها بغير ذلك، فالترافع إن لن تتمكّن منه صاحبة الدعوى أي الأصيلة فيُمكن عن طريق الوكيلة، وكذلك مصلحة نشر الثقافة الحقوقية يُمكن بغير ذلك كالنشر عن طريق مناهج التعليم ووسائل الإعلام – وبالمناسبة فهذان المجالان لم يقوما بالنشر الحقوقي على وجه أمثل –، وأما المفاسد في تعيين المرأة محامية فلابدّ من درئها.
ومن ذا الزوج الذي يرتضي أن تكون زوجته مسفارًا لا تعرف القرار في البيت!
إن لم تتعرض لمجالسة غيره بحكم ظروف العمل، ولا يغبْ عن البال أن قضايا الأحوال الشخصيّة تُحتّم على المحامية السماع من الأزواج رجالً ونساءً ليستبين لها الأمر، فالأمر يقتضي ألا تكون محامية عن بنات جنسها فحسب كما يُزعم.
والحق الذي ُيقال عند تزاحم المصالح والمفاسد في هذا الصدد:إن كان في عدم فتح مجال المحاماة للمرأة مفسدة للبعض أي مفسدة خاصة، فتعيينها مفسدة للمجتمع أي مفسدة عامة، ومن قواعد الشريعة أنه إذا اجتمعت مفسدتان عامة وخاصة ولم يُمكن دفعهما جميعًا ولابدّ من ارتكاب إحداهما فتُرتكب الخاصة وتُدفع العامة.
كما أن من قواعد الشريعة أنه إذا اجتمعت مفسدتان كبرى وصغرى ولم يُمكن دفعهما جميعًا ولابدّ من ارتكاب إحداهما فتُرتكب الصغرى وتُدفع الكبرى.
وقفةٌ لحلّ بديل:
تُقدّم بعض مراكز الاستشارات الاجتماعية والتربوية من خلال أقسام نسائية بعض النصائح والتوجيهات بالتعاون مع أكاديميات عبر الانترنت والهاتف والمقابلات الشخصية، فلو أصبح هناك أقسام نسائية في مراكز الاستشارات الشرعية والنظامية تُقدّم الاستشارات فيها نساء إلى نساء بالطريقة التي تنتهجها مراكز الاستشارات الاجتماعية والتربوية لكان أقرب للصواب.
لاسيّما وأنّ هناك أمورًا تدركها النساء من شؤونهن أكثر إدراكًا من الرجال، ورأيهنّ فيها أسدّ، وربّ رأيٍ من امرأة أسدّ من رأي ألف رجل، ثم إن المحاجّة في القضاء ليست مثل الاستشارة لأنّ المحاجّة والمخاصمة ربّما أخفقت فيها المرأة، وأدانت نفسها من حيث أرادت براءتها، ومما يشهد لهذا الأصل قول المولى جل وعلا عن جنس المرأة: (وهو في الخصام غير مبين)الزخرف 18
همسة في أذن من يعمل لفتح مجال المحاماة للمرأة:
طوبى لعبدٍ دلّ عباد الله إليه فكان مغلاقًا للشر، ولم يكن عونًا للشيطان على عباد الله بجرّهم لما يؤول بهم إلى سخطه.
وفي الختام أسأل الله التوفيق للجميع.
الكاتب: سلطان بن عثمان البصيري